رنا عناني
إنّ ندرة الأرشيفات الفنيّة، وخاصّة تلك التي توثّق لبداية الحركة الفنيّة التشكيليّة في فلسطين، تدفعنا لاعتبار مُجمل الإنتاج الفني التشكيلي الفلسطيني وتراكمه، والمعلومات حول الظروف التي نشأ وتطوّر فيها عبر السنين، أرشيفاً بديلاً. ولكنه، كغيره من الأرشيفات الفلسطينيّة، سيبقى أرشيفاً منقوصاً، نظراً لضياع واختفاء كثير من الأعمال الفنيّة التي أُنتجت في مراحل مبكّرة، وعدم توفّر معلومات عن أماكن وجودها، وندرة الصور والوثائق والشهادات في المراحل الأولى، وخاصّة منذ تبلور الحركة التشكيليّة الفلسطينيّة في الأراضي الفلسطينية المحتلّة. إنّ لغياب أجزاء من هذا الإنتاج تبعاته على فهمنا ومعرفتنا ودراستنا وتحليلنا لهذا التاريخ، الذي نشأ وترعرع في ظلّ منظومة استعماريّة كان لها أثر على تطوّره.
في هذه الورقة أتناول تاريخ الفقدان الذي طال الفنّ التشكيلي الفلسطيني في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة (الفنّ بشكله التقليدي، أي الأعمال الفنيّة المؤطّرة)، لا سيّما في الفترة الأولى من التئام رابطة الفنّانين التشكليليّين، وأحاول الوقوف على الأسباب التي ساهمت في ضياعه. ولعلّ من شأن تسليط الضوء على هذا التاريخ، ومحاولة إنتاج سرديّة حول الفقدان، المساهمة في ردم فجوة وردّ اعتبار لتاريخ ضائع.
من خلال سلسلة من المقابلات والأبحاث الميدانيّة، التي بدأتها أثناء عملي في المتحف الفلسطيني في العام ٢٠١٤، تمكّنت من الوقوف على مجموعة من أسباب ضياع واختفاء كثير من الإنتاج الفنّي الفلسطيني في مراحله المبكّرة. وباستمراري في تتبّع هذه الأسباب، وتحليلها، أقدّم سرداً لجوانب من نشوء وعمل الحركة التشكيليّة الفلسطينيّة، وتحديداً داخل الأراضي المحتلّة، من زاوية لم تلقَ كثيراً من الاهتمام، ولكنّها تساهم، وبشكل موازٍ، في رسم فهم للسياق والظروف التي أحاطت بنشوء الحركة وعملها.
لا بدّ من فهم ضياع واختفاء الأعمال الفنيّة ضمن السياق الاستعماري لفلسطين، وأنّ الإجراءات الصارمة التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي على الإنتاج الفنّي، وتقييده لحريّات التعبير، قد خلقت، مُجتمعة، ظروفاً سياسيّة وإجرائيّة ساهمت وكرّست ضياع هذا الإنتاج. ولكن هذا لا يعفي مساهمة عوامل أخرى، من ضمنها الإهمال ووجود مُقتنصي الفرص وتجّار الفن، من دورها التاريخي في الإمعان في هذا الضياع، والتسبّب في تشكُّل تيه الأعمال الفنيّة وفقدان أجزاء منها.
عندما حلّت نكبة فلسطين في العام ١٩٤٨، ومع تفسّخ نسيج المجتمع الفلسطيني، انتكب الفنّ الفلسطيني كذلك، وهاجر كثير من الفنّانين إلى الدول العربيّة المجاورة، تاركين خلفهم أعمالهم الفنيّة ومراسمهم، مثل الأخوَين بدران اللّذين كانا يملكان مرسماً في شارع “ماميلا” في القدس[1]. ومن هذه الأعمال ما ضاع أو ما قامت العصابات الصهيونيّة بسرقته، ومنها ما دُمِّر بفعل الحرب، ولا تتوفّر أيّة معلومات تؤكّد مصير أيٍّ من هذه الأعمال، كما هو الحال في لوحات داود زلاطيمو، مثلاً، التي تُركت على جدران مدرسة اللّد[2].
تلت نكسة فلسطين في العام ١٩٦٧ بداية التئام الفنّانين الفلسطينيّين في الأراضي المحتلّة، وتشكيل رابطة الفنّانين التشكيليّين الفلسطينيّين في العام ١٩٧٥، وبداية تأسيس قسم الثقافة الفنيّة في دائرة الإعلام والتوجيه القومي في منظّمة التحرير الفلسطينيّة في بيروت. وقد ساهمت الهزيمة في العام ١٩٦٧، والصدمة التي انتابت الفلسطينيّين حينها، في تأجيج المشاعر الوطنيّة، ورأى الفنّانون في الأراضي المحتلّة أنّ دورهم وطني بالأساس، ويساهم في تعزيز روح المقاومة، فكرّسوا الرمزيّة السياسيّة في أعمالهم الفنيّة، واتّبعوا أسلوب التعبير المباشر عن طموحات الشعب والرغبة في التحرّر، فظهرت قبضات الأيدي الخارجة من الأرض، ودم الشهداء، وجذور شجر الزيتون الراسخة الممتدّة، والعلم، والفدائي، والبندقيّة، والشمس التي تبزغ من بين القضبان…، وغيرها، في أعمالهم التي لاقت استحساناً واسعاً لدى الجمهور، الذي أمّ المعارض بأعداد كبيرة.
بدوره، حاول الاحتلال الإسرائيلي إخضاع الفنّ الفلسطيني وتفريغه من دوره الوطني المباشر، من خلال مجموعة من الإجراءات، منها فرض القيود على محتوى الأعمال الفنيّة والمعارض، كما رفض منح ترخيص لرابطة الفنّانين التشكيليّين في العام ١٩٧٥، فأُغلقت المعارض وتعرّضت للرقابة، وصُودرت اللّوحات التي وُجدت فيها رموز سياسيّة، وكان ضبّاط أسرائيليّون يزورون المعارض برفقة جنود مُدجّجين بالسلاح قبل مصادرة اللّوحات أو إغلاق قاعات العرض.
وفي تلك الفترة أُغلق غاليري ٧٩ في رام الله في السنة الأولى من عمله، ودُعي فنانون لمقابلة الحاكم العسكري، الذي هدّد، بشكل مُبطّن، بمنع إنتاج أعمال فنيّة “تحريضيّة”[3]. كما عمل الاحتلال الإسرائيلي على اعتقال عدد من الفنّانين إثر معارض نظّموها أو شاركوا فيها بلوحات لم تتوافق مع المعايير المفروضة.
لم تمنع كلّ الإجراءات المفروضة الفنّانين من مواصلة عملهم، فقد باشرت رابطة الفنّانين عملها دون ترخيص، واستمرّ الفنّانون في إنتاج أعمال فنيّة تحمل رمزيّة سياسيّة، صارت تتّخذ أشكالاّ مختلفة عن السابق، في محاولة لتجنّب المصادرة، فأصبحت ألوان العلم، مثلاً، تستخدم في اللّوحة، عوضاً عن رسم العلم بشكل مباشر، وهكذا.
وبعكس آلاف الكتب المسروقة من البيوت الفلسطينيّة في العام ١٩٤٨، والتي نعرف أنّ جزءاً منها يندرج اليوم تحت بند “ممتلكات متروكة” في مكتبة الجامعة العبريّة[4]، فإنّه من غير المعروف إلى أين آلت اللّوحات المسروقة والمصادرة، ومن غير المعروف إن كان أيٌّ منها محفوظاً في مخازن مغلقة تحت مُسمّيات وبنود شبيهة.
إجراءات النقل على الحدود
ساهمت الإجراءات التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي على تحرّك الفلسطينيّين عبر الحدود، من وإلى الضفّة الغربيّة تحديداً في السبعينيّات والثمانينيّات من القرن الماضي، في تشتّت وضياع الأعمال الفنيّة في أنحاء مختلفة من العالم. ففي فترة السبعينيّات، نشطت رابطة الفنّانين التشكيليّين، وشمل عملها تنظيم معارض في أنحاء مختلفة من فلسطين، وكذلك في العالم، بالتعاون مع مؤسّسات ومبادرات وأفراد نظّموا فعاليّات سياسيّة تضامنيّة مع الشعب الفلسطيني. كما شارك الفنّانون في الأراضي المحتلّة في معارض بالتنسيق مع القسم الثقافي في منظّمة التحرير الفلسطينيّة، والذي كان يديره الفنّان إسماعيل شمّوط وزوجته الفنّانة تمام الأكحل من بيروت.
لم يكن ممكناً شحن الأعمال الفنيّة من داخل فلسطين إلى الخارج باستخدام شركات شحن، كما هو الحال اليوم، وكان الفنّانون يحملون أعمالهم باليد، بعد وضعها في حقائبهم أو في أنابيب خاصّة تُحمل عبر جسر الأردن، ومن ثمّ إلى عمان أو بيروت أو إلى مطار الأردن، ويعودون بها، إن استطاعوا، بعد انتهاء المعارض. ولذا، أصبح الفنّانون ينتجون أعمالاً صغيرة الحجم يسهل نقلها ووضعها داخل حقائب،[5] وكثير ما تعرّضوا للتوقيف والمساءلة حول ما يحملونه من أعمال، وفي بعض الأحيان صُودرت أعمالهم، مثلما حدث مع أعمال الفنّان كريم دباح عام ١٩٧٦، والتي كانت في الطريق للمشاركة في معرض في المركز الثقافي السوفييتي في عمان، عندما صودرت بسبب عبارة كُتبت على إحداها، وُجدت أنها مسيئة للنظام في الأردن.
استخدم الفنّانون أحياناً مطار اللّد في السفر، وكان المطار مفتوحاً أمام الفلسطينيّين حتى العام ٢٠٠٠ تقريباً، ولكنّ حمل اللّوحات ونقلها من خلاله إلى الخارج كان أمراً شبه مستحيل، وذلك بسبب تعرّض الفلسطينيّين وحقائبهم لتفتيش استثنائي، ولذا، فقد كانت اللّوحات عُرضة للمصادرة بسبب المواضيع التي تناولتها.
وإن كانت عملية نقل الأعمال الفنيّة من فلسطين إلى أنحاء العالم صعبة، فإنّ عملية إعادتها إلى فلسطين كانت مساوية في الصعوبة، إن لم تكن أصعب، فهاجس مصادرة الأعمال الفنيّة كان يصاحب حامل اللّوحات باستمرار، وكذلك الخشية من دفع جمارك. وكان الفنّانون يحملون عدداً قليلاً من الأعمال حتى لا يتمّ توقيفهم ومساءلتهم، ولذا، فقد تُركت كثير من الأعمال في عهدة مُنظّمي المعارض ريثما يتسنّى نقلها باليد، أو على أمل أن تُباع إن حالف الفنّان الحظ. ولأنّ مُنظّمي المعارض هم في العادة من المتضامنين أو الناشطين السياسيّين أو ممثّلي فلسطين في العالم، كانت الأعمال تترك في مخازن أو تُعلّق في البيوت ريثما يرتّب الفنّان عمليّة نقلها بشكل شخصي. وتتكرّر قصص اختفاء الأعمال الفنيّة التي تُركت في عهدة أشخاص أو سفارات أو مؤسّسات، وقصص المتنصّلين من الاعتراف بوجودها في عهدتهم.
ومن المعارض التي ضاعت بهذه الطريقة معرض لندن (١٩٧٦)، الذي ضمّ حوالي ٣٠ عملاً فنيّاً تعكس الإنتاج المبكّر للحركة الفنيّة التشكيليّة في الأراضي المحتلّة. [6] وكذلك الأمر بالنسبة لمعرض “رسّامو الأرض المحتلّة” (١٩٧٧) الذي نُظّم في أمريكا وجال في أكثر من ولاية، ومعارض أخرى نُظّمت في إيطاليا وفرنسا والولايات المتّحدة [7]. بعض المعارض التي نُظّمت في عدد من العواصم العربية احتفاء بالقدس وفلسطين تعرّضت للضياع كذلك، إمّا لسوء التنظيم أو لخلل في حلقة الوصل، منها معرض في الكويت وآخر في قطر[8].
ساهمت الأحداث السياسيّة المتلاحقة بشكل مباشر في ضياع معارض وأعمال فنيّة عدّة على صعيد فردي وجماعي، ففقد فنّانون أعمالهم الفنيّة نتيجة التنقّل من مكان إلى آخر عبر حكاية غير مُنتهية من اللّجوء، مثل مصطفى الحلّاج[9] وتوفيق عبد العال [10].
كما أدّى اجتياح بيروت في العام ١٩٨٢، وقصف دار الكرامة، إلى ضياع أعمال كانت مشاركة في المعرض التشكيلي العالمي من أجل فلسطين[11]، ومعرض تضامني آخر ضمّ أعمالاً لفنّانين من ألمانيا الشرقيّة واليابان، عُرض في الصالة، في الوقت نفسه، إلى جانب معرض لمجموعة من الفنّانين الفلسطينيّين من الأراضي المحتلّة [12]. وفي غزّة، تعرّض أحد المعارض للحرق بالكامل في قاعة جميعة الهلال الأحمر (١٩٧٩)، وذلك بعد مظاهرة لحركة الإخوان المسلمين، وكان من المفترض أن يتمّ افتتاح المعرض عندما تمّ إحراق مكتبة الهلال الأحمر، حيث وُضعت اللّوحات استعداداً للمعرض، فالتهم الحريق ٤٢ عملاً فنيّاً تحوّلت جميعاً إلى أُطُر متفحّمة[13].
ويذكر أنّ مشاركات الفنّانين الفلسطينيّين في المعارض التي نظّمها قسم الثقافة الفنيّة في منظّمة التحرير الفلسطينيّة تعرّضت كذلك للضياع. وكان الفنّانون الفلسطينيّون يرسلون أعمالهم من الأراضي المحتلّة إلى القسم في بيروت، ومن ثمّ تُرسل الأعمال للمشاركة في معارض مختلفة في العالم، وعند انتهاء المعرض كان بعضها يعود إلى بيروت، وكثير منها لم يعد[14]. ومن المعارض التي اختفت بالكامل معرض موسكو (١٩٧٩)، ومعرض تونس (١٩٩٠)، الذي افتتحه الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
بُعيد توقيع اتفاقيّة أوسلو ونشوء السلطة الفلسطينيّة، تراجع نشاط رابطة الفنّانين التشكيليّين، وتولّت وزارة الثقافة الفلسطينيّة تنظيم المشاركات الرسميّة في المعارض، وفُتحت الأسواق الفلسطينيّة على العالم، ومن بينها سوق الفنّ. منذ ذلك الحين ارتفعت أسعار الأعمال الفنيّة، ونشأت مؤسّسات ثقافيّة وغاليريهات فنيّة، ونمت طبقة من مُقتني الفنّ، واتّسعت فرص المشاركة في المعارض في العالم. وقد ساهم نشوء شركات الشحن والتسهيلات النسبيّة في التعامل مع النقل عبر الحدود في تذليل عمليّة نقل الأعمال الفنيّة من وإلى فلسطين، وصار الاعتماد أكبر على هذه الشركات، إلّا أنّ ذلك لم يحل دون ضياع المعارض، ولا سيّما تلك التي نظّمتها وزارة الثقافة، مثل معرض “فلسطين مفتاح الثقافة والسلام” في سويسرا (٢٠٠٥)، ومعرض في بيروت (٢٠٠٩) أُقيم على هامش احتفالات القدس عاصمة الثقافة العربيّة، هذا عدا عن الأعمال الفرديّة التي شاركت ضمن فعاليّات نُظّمت في الخارج ولم تعُد.
من ناحية أخرى، فإنّ أعمال الفنّانين في الأراضي المحتلّة، التي كانت في عهدة قسم الثقافة في منظّمة التحرير الفلسطينيّة في تونس، والتي عادت من معارض شاركت بها حول العالم، أُرسلت في صندوق من تونس إلى وزارة الثقافة في رام الله بُعيد تأسيسها، ولكنّها سرعان ما فُقدت، هذا بالإضافة إلى فقدان مجموعة كانت قد اقتنتها الوزارة خلال السنوات الأولى من عملها في رام الله، إثر الاجتياح الإسرائيلي لمبنى الوزارة في العام ٢٠٠٢، حيث تمّ استغلال الفوضى التي عمّت المبنى إثر الاجتياح[15].
لا يقتصر فقدان الأعمال الفنيّة على تلك التي شاركت في معارض، فهناك عدد كبير من الأعمال التي بيعت أو تمّ إهداؤها لأشخاص وهي غير موثّقة بصور، وخاصّة من فترة السبعينيّات والثمانينيّات من القرن العشرين. ولا يتذكّر الفنّانون كلّ من اقتنى أعمالهم، كما لا توجد وسائل للتواصل معهم، ما يجعل مسألة التوثيق، أو معرفة تفاصيل مصير هذه الأعمال، أمراً مستحيلاً، يعزّز عدم المعرفة بالإنتاج الفنّي في ذلك الوقت، ويجعلنا نحكم على هذا الإنتاج من خلال عدد قليل من الصور المتوفّرة.
الخوض في البحث في ضياع الأعمال الفنيّة كان كفيلاً، من جديد، بظهور لوحات اختفت في بعض المعارض. فإثر نشر قائمة مختصرة حول المعارض الجماعيّة الضائعة في العام ٢٠١٤، ظهرت مجموعة من الأعمال الفنيّة “المفقودة” في متحف في طهران، كما ظهر أحد المعارض الجماعيّة الضائعة في إيطاليا. وقد يعود السبب جزئيّاً إلى ارتفاع قيمة الأعمال الفنيّة، والمكاسب التي قد يجنيها أصحاب صالات العرض أو الفنّانون أو بعض المقتنين إن ظهرت هذه الأعمال التي أُنتجت قبل عشرات السنوات وبيعت بأسعار اليوم.
إنّ اهتمام كثير من تجّار الفن وأصحاب صالات العرض الجديدة في المنطقة بتتبّع مآلات الأعمال الضائعة في العالم ومحاولة استعادتها يعود إلى القيمة الماديّة التي تحملها هذه الأعمال، وليس من باب التوثيق وإتاحتها للمهتمّين والباحثين. إنّ عدم وجود توثيق بالصور للأعمال الفنيّة أو لمآلاتها، سواء كانت قد ضاعت أو تمّ بيعها لأشخاص من أنحاء مختلفة من العالم، ساهم في تشكيل فجوة معرفيّة عن محتوى هذه الأعمال، وبالتالي صعوبة في تقديم قراءات في تطوّر الفنّ التشكيلي الفلسطيني تحت الاحتلال، ومقارنته بفنون شعوب أخرى أنتجت الفنّ تحت الاحتلال.
رواية تاريخ الفن
لقد بلغ فقدان الأعمال التشكيليّة الفنيّة أوجه في ذروة نشاط الحركة الفنيّة التشكيليّة في السبعينيّات والثمانينيّات من القرن العشرين، في ظلّ الإجراءات المشدّدة على الإنتاج الفنّي. ولكنّ الحديث عن فقدان الأعمال والمعارض الفنيّة لن يُعيدها، غير أنّه قد يساهم في محاولة تقديم سرديّة تاريخيّة بديلة للفنّ التشكيلي الفلسطيني، نمت وتطوّرت في ظلّ نظام استعماري سعى، وما يزال يسعى، إلى طمسها وطمس التاريخ الأصلاني بشكل مُمنهج.
من المهم أن يتمّ توثيق هذا الفقدان، ليس بالكلمات فحسب، وإنّما من خلال تخيُّله وإعادة إنتاجه على شكل أعمال ومشاريع فنيّة تُعيد رواية هذا الإنتاج والسياق الذي أُنجز فيه، والقصص المختلفة التي تُحيط بفقدانه. وهناك عدد محدود من محاولات إعادة إنتاج هذا الفقدان وتخيُّل سياق الأحداث، مثل معرض “ذكرٌ قلِق” لكلّ من رشا السلطي وكريستين خوري، اللّتين تتبّعتا قصصاً وأعمالاً من المعرض التشكيلي العالمي من أجل فلسطين، الذي فُقد في العام ١٩٨٢.
لقد حاولت هذه الوردقة تسليط الضوء على الظروف التي عملت فيها الحركة الفنيّة والفنّانون في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة خلال الحقبة الماضية، بالعلاقة مع فقدان الإنتاج الفنّي الفلسطيني، وخاصّة خلال أوج نشاط هذه الحركة والظروف الاستثنائيّة التي عملت ضمنها. ولا تزال هناك حاجة إلى مشاريع بصريّة من شأنها ردّ الاعتبار لهذا التاريخ المفقود. وفي ظلّ غياب أرشيفات حول الفنّ التشكيلي الفلسطيني ونشأته وتطوّره، ومحدوديّة المصادر والسرديّات عن هذا التاريخ، فإنّ من شأن إنتاج مشاريع بصريّة تسبر غور التاريخ المفقود أن تردم فجوات في التاريخ، وتساهم في إعادة تشكيل أرشيف فنون بصريّة، بشكله الأوسع، يغني الدراسات والأبحاث ويعزّز فهمنا لنشأة ودور الحركة التشكيليّة الفلسطينيّة في الأراضي المحتلّة عبر مراحل مختلفة.
[1] انظر: كمال بُلّاطة. “استحضار المكان، دراسة في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر“، تونس: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو)، ٢٠٠٠، ص ٨٤.
[2] إسماعيل شموط. الفن التشكيلي في فلسطين، (الكويت، ١٩٨٩)، ص٣٩.
[3] نبيل عناني. الخروج إلى النور. تحرير: رنا عناني، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ٢٠١٩، ص ٩٠.
[4] (للمزيد الرجوع إلى كتاب كمال بلاطة (استحضار المكان، دراسة في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر، تونس ٢٠٠٠)، وكتاب إسماعيل شموط (الفن التشكيلي في فلسطين، الكويت ١٩٨٩).
[5] مقابلة مع نبيل عناني، ٢٦ تموز ٢٠٢٠، رام الله.
[6] مقابلة مع سليمان منصور ونبيل عناني، نيسان ٢٠١٤.
[7] مقابلة مع سليمان منصور ونبيل عناني، نيسان ٢٠١٤.
[8] رسالة من مدير مركز الواسطي للفنون إلى فيصل الحسيني حول الأعمال المفقودة في مهرجان قطر، من أرشيف مركز الواسطي للفنون.
[9] مصطفى الحلاج. حوش الفن الفلسطيني، (القدس ٢٠١٣)، ص ٤٦.
[10] مقابلة مع طارق عبد العال، ٢٧ كانون الأول ٢٠٢٠.
[11] جريدة الأخبار أونلاين. “رشا السلطي وكريستين خوري: بحثاً عن “فلسطين ٧٨”، روان عز الدين، ٢٨ آب ٢٠١٨:
https://al-akhbar.com/Visual_Arts/256799
[12] مقابلة مع تمام الأكحل، أيار ٢٠١٤، أجرتها حنين ماخو.
[13] مقابلة مع سليمان منصور ونبيل عناني، نيسان ٢٠١٤.
[14] المصدر السابق.
[15] مقابلة مع حسني رضوان، أيار ٢٠١٤.